هكذا تسلّح جهازك المناعيّ لمقاومة فيروس كورونا
اغسل يديك بتفانٍ لمدّة 20 ثانية، استخدم مرفقك عند العطس، تجنّب ملامسة الوجه، وحافظ على مسافة متر واحد من الآخرين، وكحلّ أخير؛ العزل الذاتي لأسبوع بصحبة المؤن اللازمة للطوارئ. إن أردت أن تتجنّب التقاط فيروس كورونا المستجد (Covid-19)، فإنَّ كل هذه الإجراءات فكرة جيدة، لكن بالإجمال، فإنَّ أهمَّ ما يحول بينك وبين الإصابة بمرض "كوفيد-19" هو جهازك المناعي.
نحن نعلم أنَّ الجهاز المناعيّ يضعُف كلما تقدَّمنا بالسن، وبأنه السبب الرئيسي الذي يجعل أولئك الذين تتخطّى أعمارهم 70 سنة هم الأضعف أمام المرض، لكن بات من الواضح فيما يتعلّق بالصحّة المناعيّة أن العمر مجرّد رقم فحسب. يمتلك بعض الناس نظاما مناعيّا هو عمليا وبشكل ملحوظ إما أكبر أو أصغر من عمرهم الفعليّ، ويقول اختصاصيّ المناعيّات شاي شن أور: "إن بعض مَن تتجاوز أعمارهم 60 عاما لديهم نظام مناعيّ يبلغ من العمر 40 سنة، بينما يكون عمر الجهاز المناعي للبعض الآخر أقرب إلى 80 سنة". الأنباء السارّة هي أنَّ ثمة بعض الطرق البسيطة لإعادة عقارب السَّاعة المناعيّة إلى الوراء، لأنّه حتى بعد انتهاء تهديد هذا الفيروس، فعاجلا أم آجلا ستكون هناك موجة أخرى، ولا أحد منَّا سيكون أصغر عمرا عندئذ.
كما سيخبرك أي شخص درس المناعيّات، فالنظام المناعيّ متشابك بشكل مذهل، ويقول أور "إنَّه ثاني أعقد جهاز في أجسامنا بعد الدّماغ"، فهو يتألّف من مئات أصناف الخلايا وجزيئات الخلايا المرسلة للإشارة التي يتحكَّم بها نحو 800 جين من الجينات، والتي تتفاعل في شبكة من التعقيد شبه اللا متناهي.
لحُسن الحظ، ليس عليك أن تكون مُطّلعا على كل التعقيدات لكي تستفيد من آخر التطوّرات التي في حقل المناعيَّات، وإن كان القدر البسيط من المعرفة مفيدا. إن كان عمرك أقلّ من 60 عاما، ولديك صحة جيّدة، ولم تكن تسلك العديد من العادات السيّئة، فعلى الأرجح أن نظامك المناعي سيعمل على نحو جيّد بما يكفي ليحفظك من أي مرض مُعْدٍ تقريبا، بما في ذلك فيروس كورونا الجديد.
أما الأنباء غير السارّة فهي أنَّنا كلّما تقدَّمنا بالعمر، تدهورت أجهزتنا المناعيّة بالتدريج، وبحسب جانيت لورد من جامعة بيرمينغهام في بريطانيا، يبدأ هذا "التشيّخ المناعي" بالتأثير على صحّة الأشخاص عند سنّ 60 عاما تقريبا. وكلّما تقدَّمت بالعمر، أصبح جهازك المناعي أكثر ضعفا من السابق، وكانت لديك احتمالية أكبر للإصابة بمرض مزمن أو الوفاة.
خلال موسم الإنفلونزا العادية، على سبيل المثال، تمرض قلّة قليلة ممّن تقع أعمارهم تحت 65 عاما بما يكفي لدخول المستشفى، في حين يدخل المستشفى نحو 20% من أولئك الذين تقع أعمارهم بين 65 و74 عاما ويلتقطون المرض، وإن كان من المستبعد وفاة أيٍّ منهم. لكن في أوساط أولئك الذين تفوق أعمارهم 75 عاما، ينتهي المطاف بنحو نصف أولئك المصابين بالإنفلونزا في المستشفى ويتوفّى 30% إلى 40% منهم، ومعظم أولئك الذين يتمكّنون من النجاة لا يتعافون بشكل تام، وتقول لورد إننا نرى معدّلات التعافي والوفاة ذاتها مع فيروس كورونا، فكما هو الحال مع الإنفلونزا، يعتمد التفاوت بين معظم الأشخاص على التشيُّخ المناعي.
بالنسبة إلى الكثيرين، قد يبدو التشيُّخ المناعي أبعد من أن يُشكِّل تهديدا، لكنّه أمر ينبغي أن يهمّنا جميعا، فمن المدهش أنَّ التدهور يبدأ في مراحل مبكّرة من العمر، خلال مرحلة البلوغ، ويمكن أن تسرّعه كل أنواع العوامل المتداخلة مع أنماط العيش. ويُرجَّح أن يكون لدى المدخّنين أو مَن يعانون البدانة على وجه التحديد نظام مناعيّ يتخطّى بسنوات أعمارهم الكرونولوجيّة، كما أن الكسل وكثرة الجلوس هي من عوامل الخطر الأخرى.
أدّت هذه المكتشفات إلى مفهوم جديد يُسمّى بـ "العمر المناعي"، وهو يُشبه العمر البيولوجي، الذي يستخدم البيانات الكيميائيّة التي تُضاف بالتدريج إلى الجينات على مدار أعمارنا لكي نتمكّن من قياس المسافة التي قطعها شخص ما على درب التقدّم بالعمر، بغض النظر عن عدد السنوات المرسومة على السَّاعة. عادة ما يتلاحم العمر البيولوجيّ والعمر الكرونولوجيّ بقوّة، لكنّ بإمكان أحدهما أن يبتعد عن الآخر بمسافة 20 سنة للأمام أو الوراء، فبعكس العمر الكرونولوجيّ يمكن للعمر البيولوجيّ أن ينخفض ويرتفع، كنتيجة في العادة لتغييرات متعمَّدة في نمط العيش، والأمر يصحّ كما يتّضح لنا على العمر المناعيّ.
هذه الطريقة في التفكير في الجهاز المناعي لها استخدامات عديدة، ومنها أنّها تساعد الأطباء في الحكم على مدى حساسيتنا للأمراض، ويمكن لها أن تساعدنا أيضا في الحفاظ على جهازنا المناعيّ وتدعيمه، وعلى سبيل المثال، يمكن لها أن تُستخدم في التحقق من إستراتيجيات غير مؤكّدة لتقوية المناعة.
"عند سنّ 60 عاما، قد يمتلك البعض جهازا مناعيّا بعمر 40 عاما، والبعض الآخر جهازا مناعيا بعمر 80 عاما"
حتَّى وقت قريب جدا، كان من المستحيل قياس العمر المناعي، لكن في السنة الماضية، كشف فريق بقيادة شن أور ومارك ديفيس بجامعة ستانفورد في كاليفورنيا عن طريقة للقيام بالأمر باستخدام نهج "تكامليّ" في النظر إلى جينوم الأفراد، وأجهزتهم المناعيّة، وأداء البروتينات، وعاين الباحثون الأجهزة المناعيّة لـ 135 شخصا في مرحلتين عمريتين مختلفتين، من 20 إلى 31 سنة، ومن 60 إلى 96 سنة، وأُعيد فحصها عدّة مرات على مدار تسع سنوات. وذهبوا إلى أنَّ الأجهزة المناعية البشرية تتّبع مسارا متوقّعا، ويقول شن أور: "بإمكاننا أن نعطيك الرَّقم الذي يفصح عن مكانك الحالي على هذا المسار، وسيكون ذلك هو عمرك المناعيّ، وهو متنبِّئ جيد جدا في حالات الوفيات من كل الأسباب".
لا يزال مقياس العمر المناعيّ جديدا، وليس هناك اختبار متاح تجاريا، لكن الفريق يعمل على واحد منها في الوقت الحالي. أما الآن، فلعل أفضل طريقة لقياس عمرك المناعي هي في فحص عمرك البيولوجي، فعلى ما يبدو أنهما متلاحمان بقوّة. إنما برغم ذلك، فليس عليك أن تعرف عمرك المناعي لاتّخاذ خطوات للبدء بتخفيضه، ويتضح أن العديد من العقاقير والإستراتيجيات لمكافحة التشيخ تؤدي هذه المهمة جزئيا على الأقل عبر تجميد أو حتّى عكس مسار التشيُّخ المناعيّ.
إحدى الطرق الرئيسيّة للحفاظ على عمرنا المناعي منخفضا تتعلّق بحقيقة أننا كلّما تقدَّمنا بالعمر بدأت بعض خلايانا المناعيّة بإساءة التصرف، ويُمثِّل هذا مشكلة من نوع خاص لصنف من الخلايا المناعية التي تُدعى بـ "الخلايا المتعادلة" أو "النيوتروفيلات"، وهي أكثر الأصناف شيوعا من خلايا الدّم البيضاء التي تُشكِّل جزءا من الجهاز المناعيّ السليقيّ، أوّل خطّ دفاع في الأجسام ضد الإصابة، وحارس الجهاز المناعيّ الذي يجوب مجرى الدّم بلا كلل للبحث عن البكتيريا المؤذية. عندما تعثر هذه الخلايا على دخيل من الدخلاء، فإنَّها تضغط الوعاء الدموي وتتحرك مسرعة باتجاه الهدف، ثم تُنهيه بواحدة من ثلاث طرق: ابتلاعه على طراز لعبة "باكمان" (الفم الذي يأكل النقاط المتتابعة)، أو رشّه بمواد كيميائية قاتلة، أو قذف حمضها النووي انتحاريّا وإلقائه على الغزاة كشبكة.
تُسمّى العمليّة التي تتنقّل بها هذه الخلايا في أرجاء الأنسجة بـ "الانجذاب الكيميائي"، وتصبح فوضويّة بشكل متزايد كلّما تقدَّمنا بالعمر، لا يزال بوسع هذه النيوتروفيلات أن تكتشف الغزاة، لكنَّها تصبح أسوأ بكثير في اصطيادهم، وعادة ما يكون ذلك عبر تخبُّطها العشوائي في الأنسجة أو انطلاقها الأهوج في الاتجاه الخاطئ، وتقول لورد: "دائما ما أقول إنها تفقد الإشارة من القمر الاصطناعي".
ويُعَدُّ هذا مشكلة لسببين: أولا، أنَّ ذلك يخفض سرعة وفعاليّة الدّفاع، مما يعطي الغزاة مزيدا من الوقت للتغلغل، وثانيا، أنه يُسبِّب الالتهاب. وقد وجدت لورد أنَّ النيوتروفيلات المتخبّطة تُسبِّب ضررا أكبر بمرتين إلى 5 مرّات من زملائها الآخرين الذين لا يزال بوسعهم معرفة الاتجاه، والنيران الصديقة من هذا النوع هي السبب الأوّل فيما يُسمّى "تشيُّخ الالتهاب"، وهو الالتهاب العام المنخفض الحِدّة الذي يتقدَّم في أجسادنا مع تقدُّمنا بالعمر.
لكن من الممكن إعادة ضبط لواقط هذه النيوتروفيلات، فجذر المشكلة هو إنزيم يصبح مفرط النشاط بمرور الزمن ويرتبط بضبط الاتجاهات. ولذا، فقد تتبّعت لورد بعض العقاقير الموجودة حاليا والتي تخفّض منسوب هذا الإنزيم. وعندما أعطت أحد هذه العقاقير للبالغين الكبار في السن، وجدت أنّه قد أعاد ضبط اللواقط بالفعل، وتقول: "لقد تجدّدت نيوتروفيلاتهم، وكانت تتحرك كما تتحرك في الأشخاص اليافعين".
ما هذه الأدوية؟ إنها الستاتينات، وهي الأدوية العادية المستخدمة في خفض مستويات الكوليسترول والتي يتعاطاها في الوقت الحالي ملايين من الأشخاص، كما أن جرعات قليلة من فيتامين "إي" قد تساعد في إعادة تجديد الخلايا المناعيّة. بالرجوع إلى بيانات جُمعت عبر ملاحظة المرضى في مستشفى "كوين إليزابيث" بجامعة برمنغهام، وجدت لورد أن الأشخاص الذين أُدخلوا إلى المشفى بمرض الالتهاب الرئوي كانوا أقل احتمالا للموت إن كانوا يتعاطون الستاتينات سلفا لخفض مستويات الكوليسترول لديهم، وجرى التثبُّت من صحّة هذه النتيجة المذهلة في تجربة سريرية مُصغَّرة، وتقول لورد إنه لا يزال من المبكّر جدا أن ننصح الجميع بتعاطي الستاتينات لتحسين أداء الجهاز المناعي، حيث تقوم هي وفريقها بإجراء التجربة على نطاق أوسع حاليا. من الممكن لهذه العقاقير أيضا أن تحمل آثارا جانبيّة مؤذية، لكن الوقت الحالي قد يكون مناسبا لكي تفحص مستويات الكوليسترول لديك، ما إن يكون ذلك بمقدور نظام الرعاية الصحيّة بمنطقتك (نظرا للضغط الذي تواجهه المنظومة الصحيّة حول العالم حاليا).
لكنْ هناك طرق لا تشمل العقاقير لكي تُعيد تجديد نيوتروفيلاتك:
التمارين الرياضية
في عام 2016، قامت لورد وزملاؤها بقياس مستويات التمرين وتحرُّك النيوتروفيلات في 211 شخصا من كبار السنّ، وتقول: "إن أولئك الذين يمشون 10.000 خطوة بالمتوسط كانت لديهم نيوتروفيلات بجودة الأشخاص اليافعين نفسها". إنها تُشدِّد على أن النيوتروفيلات ليست مضادّة للفيروس، كما أنّها لن تمنعك من التقاط فيروس كورونا أو تساعدك في القضاء عليه، لكنها ستحميك من الخطر الحقيقي، الالتهاب الرئوي، وتُضيف لورد: "عادة ما تكون الإصابات الثانويّة مسؤولة عن تفاقم أحوال المرض في هذه الإصابات الفيروسيّة".
فيتامينات حيويّة
الصنف الآخر من الخلايا المناعيّة التي تبدأ بإخطاء الهدف مع تقدُّمنا بالعمر هي الخلايا التائيَّة، وهذه الخلايا ضرورية للجهاز المناعي التكيفي، وهو الجزء الأدق من جهاز المناعة، لكنّها تتبلّد بطريقتين بفعل التشيّخ المناعي. كما هو الحال في النيوتروفيلات، تتخبط مسارات التقاط الإشارة الدّاخلية فيها، كما أنّ تشيّخ الالتهاب يصيبها بالعطب. لكن قد تكون هناك طريقة مبسّطة لعكس الضرر، وفقا لـ "دايونغ وو"، اختصاصي المناعة التغذويّة بجامعة تافتس في مدينة بوسطن، تكمن الإجابة في الفيتامين "إي".
في دراسات الحيوان، كان من المعروف دائما أنه يُحسِّن من أداء الجهاز المناعيّ، لكنَّ أهميّة هذا البحث في البشر حجبتها دراسات تقول إنَّ تناول فيتامين "إي" يحمل آثارا ضارة. لكنّ "وو" يقول إن هذه الدراسات غير موضوعيّة؛ لأن السُّميَّة تظهر عند تناول ضعف الجرعات التي يحتاج إليها تجديد الخلايا التائيَّة. وقد اختبر برفقة زملائه تأثير الفيتامين في الأشخاص الأكبر سِنًّا، عبر إعطاء نصف المقيمين الـ 679 في أحد دور الرعاية جرعة يومية صغيرة من الفيتامين "إي" مقابل إعطاء النصف الآخر منهم عقاقير البلاسيبو، ووجد تفاوتا ضخما في معدل عدوى الجهاز التنفسي العلوي. وهناك تجربة أخرى على نطاق أوسع تُجرى حاليا، لكنّ الدليل الحالي قوي بما يكفي لأن ينصح "وو" الأشخاص الذين تتخطى أعمارهم 65 عاما بتناول 200 وحدة دوليّة من الفيتامين "إي"، ويقول إنه "قد يساعد الجهاز المناعيّ على أداء وظائفه، كما أنّه غير مؤذٍ".
وفي أثناء ذلك، يظهر أن فيتامين "دي" يقوم بالأمر نفسه للجهاز المناعي، بالأخصّ في أوساط الأشخاص الذين يعيشون في مناطق لا يكون فيها الكثير من أشعّة الشمس خلال فصل الشتاء لكي تقوم بشرتهم بتجميع الفيتامين. وخلصت مراجعة تعود إلى عام 2017 للدليل على تناول مكمّل الفيتامين "دي" بأنه يمنع عدوى الجهاز التنفسي العلوي، ويقول "وو" إن 1000 إلى 2000 وحدة دوليّة من هذا الفيتامين ستكون آمنة ومفيدة، لكن من الضروري عدم زيادة هذه الكميّة لأن ذلك في الواقع يقمع وظائف الخلايا التائية.
أما المكمّل الغذائي الثالث الذي يحمل دليلا قويا على قدرته رفع أداء الجهاز المناعيّ فهو الزنك، ويقول "وو": "إنّه فعّال جدا في حالات الإصابة الفيروسيّة، لكن علينا توخّي الحذر، لأن جرعة مفرطة منه ستُرهق جهازك المناعي".
بعيدا عن الخلايا المناعيّة التي لا تُحسن التصرف، ثمة دليل مهم آخر على تدهور جهازنا المناعيّ مع تقدُّمنا في العمر يأتي من عضو حيوي لكننا قليلا ما نعرف بشأنه يُسمّى بالغدّة الزعتريّة، والتي توجد (أو كانت توجد) خلف عظام القفص الصدري. هذا النسيج اللمفاوي يأخذ شكل القلب، وفيه تُحضَّر الخلايا التائية قبل أن تُطلَق لأداء مهمتها. تكون هذه الغدّة نشطة جدا في سن الطفولة، لكنها ترتكس مع تقدُّمنا في العمر، لتنكمش بنحو 3 سم كل سنّة بدءا من سن البلوغ، وبحلول منتصف العمر عادة ما تتحوّل إلى بعض المخلفات، وينحدر منسوب الخلايا التائيّة.
ويحمل هذا الأمر عواقب على قدرة أجسامنا على الدفاع عن أنفسها في وجه الأمراض الجديدة، ويكون هذا الجهاز المناعي التكيفي لدى الأشخاص الأكبر سِنًّا، أي أولئك الذين بالكاد يتبقّى لديهم أي شيء من هذه الغدة، قد تضاءل بشكل حاد، مما يترك جوانب كاملة من أجهزتهم المناعية عُرضة للتهديد.
حضّر غُدّتك
إعادة تخليق الغدة الزعترية هو موضوع حيّ في الأبحاث المضادة للشيخوخة، وقد حاول البعض إعادة تخليق هذه الغدة عبر استخدام هرمون النمو البشري، لكنَّ ثمة إجراءات غير فارماكولوجيّة. وفي عام 2018، نشرت لورد وزملاؤها دراسة عاينت فيها 125 من راكبي الدراجات الهوائية الهواة الذين تقع أعمارهم بين 55 و79 عاما، وكان غالبية هؤلاء يقودون درّاجاتهم الهوائية لمسافات طويلة على مدار عقود من الزمن.
وبما لا يُثير الدهشة، امتاز هؤلاء الأشخاص بليونة ورشاقة، وقوّة بدنية أكبر من المتوسط، لكنّهم أيضا حازوا أجهزة مناعيّة أفضل. وكان منسوب الخلايا التائيَّة لديهم مماثلا لمنسوبها لدى الأشخاص الأصغر سِنًّا، وكانت الغدة الزعتريّة لديهم مليئة بالحيوية، وتقول لورد: "إن جزءا كبيرا من تراجع الغدة الزعتريّة مردّه إلى الخمول وقلة الحركة". وهناك أدلة قوية من التجارب الحيوانيّة على أن التمارين الرياضية لا تمنع زوال هذه الغدّة فحسب، ولكنّها أيضا تُعيد تشكيلها، وإن كنا لم نتأكد من صحّة هذا الأمر لدى البشر حتى اللحظة.
هناك تأثيرات أخرى للتمارين الرياضية على تحسُّن الجهاز المناعي أيضا، وتقول لورد: "إنَّ العضلة الهيكليّة النشطة تكون محصّنة ضد الالتهابات وتحفّز إفراز الخلايا البلعميّة" لدى أولئك الذين يمارسون رياضة الركض يوميا، وتضيف لورد: "إن العضلة الهيكليّة نسيج بالغ الأهميّة في تنظيم عمل الجهاز المناعيّ داخل الجسم، والحفاظ عليه نشطا عبر النشاط الحركي سيعود بفوائد حقيقية فعلا على الصحّة، فالتمارين الرياضيّة مفيدة لكل الفئات العمرية". وعند سؤالها عن الأمر الوحيد الذي توصي به لتقوية الجهاز المناعيّ، قالت: "عليك بزيادة الخطوات التي تقطعها يوميا إلى 10000 خطوة". في مواجهة فيروس كورونا الجديد، فإنَّ من المهم أكثر من أي وقت مضى إيجاد طرق جديدة للحفاظ على نشاطنا حتى في الحجر أو العزل، وهو أمر قد لا يكون سهلا".
كما أنَّ الأطعمة التي تتناولها مهمّة لجهازك المناعي، ويُعَدُّ الوقت الحالي فرصة مناسبة للاعتناء بنباتاتك المعويّة. ثمة دليل جيد على أنَّ المعينات الحيوية (البكتيريا الدقيقة التي توجد في الزبادي على سبيل المثال) يمكن أن تُحسِّن من أداء الجهاز المناعيّ، كما أنَّ ضعف الصحة المعويّة هو السبب في الشيخوخة المبكّرة، حتّى إنَّ الميكروبات المعويّة الصحيّة يمكن أن تخفض من عمرك المناعيّ. في عمل لم يُنشر بعد، قام فريق لورد بعمل تحاليل للمرضى الذين يعانون من البكتيريا المسببة للإسهال، المطثيّة العسيرة أو "كلوستريديوم ديفيسيل"، وكان عمرهم المناعيّ يفوق المتوقّع بكثير، وتقول لورد إنّه بلغ أكثر من 10 إلى 20 عاما من أعمارهم الكرونولوجيّة. لكن بعد إعطائهم جرعة من بالبكتيريا البرازيّة (أحد أنواع المعينات الحيوية) لأشخاص أصحّاء أصغر سِنًّا، انخفضت أعمارهم المناعية على الفور، وتقول لورد: "كان الانخفاض مذهلا، وقد تم حرفيا خلال بضعة أسابيع".
الخضروات الورقية الخضراء تمد الجسم بالعناصر المغذية وتعمل على تقوية المناعة وتساعد على إنقاص الوزن والتمتع بالرشاقة. (وكالة الأنباء الألمانية) |
قد لا ترغب بتجربة هذه الجرعات في المنزل، لكن ثمة كثير من الطرق للحفاظ على نباتات معوية مزدهرة، بما فيها تناول أطعمة صحية، متنوعة وغنية بالألياف، إلى جانب المواد النباتية والأطعمة المخمَّرة مثل طبق الكيمتشي. وهناك تغييرات غذائية أخرى، مثل الصوم الذي تدعمه أدلة علمية قوية.
ليس هناك واحد من هذه التدابير إلا ويتطلّب قدرا من التضحية. لكنك إن أردت البقاء على قيد الحياة وأن تعيش لأطول فترة ممكنة، فلا بد من الاهتمام بنظامك المناعيّ، بالأخص في هذه المرحلة التي بات فيها فيروس كورونا الجديد أكبر تهديد للصحة العامّة منذ الإنفلونزا الإسبانيّة، ويقول شن أور: "إنَّ عمر جهازنا المناعي مُكوِّن حاسم من أعمارنا الفعليّة".
لمحة عن المناعة
هناك ذراعان رئيسيّان لجهاز المناعة: السليقي، والتكيّفي. المناعة السليقيّة هي أول خطّ من خطوط الدفاع، وتُوظّفها الخلايا القاتلة للجراثيم ذات الوظائف المتعددة مثل النيوتروفيلات والخلايا البلعميّة، وهذه الخلايا هي أول ما يستجيب للغزو الجرثوميّ. أما الذراع التكيفي فهو أدق وأبطأ، ويستجيب لجراثيم مُمرِضة عبر أسلحة دقيقة مثل الخلايا التائيّة والخلايا البائية والأجسام المضادة. كما أن الذراع التكيفي يمدُّ المناعة بالذاكرة، التي تحول دون إصابتك بالمرض نفسه مرتين.
تُحدِّد هذه الخلايا البائيّة القادرة على التذكّر الجرثومة المُمرِضة وتستجيب بردٍّ سريع وشرس إن غزت الجسم مرة أخرى. تستطيع بعض الفيروسات -بالأخص في حالة الإنفلونزا- أن تتغير بحيث تُفلت من ذاكرة المناعة، وما زلنا غير متأكدين بعد إن كان فيروس كورونا الجديد قادرا على القيام بذلك الأمر.
الحمية المناعيّة
إحدى أكثر إستراتيجيات مقاومة الشيخوخة أهمية التي اكتُشفت على الإطلاق هي الحدّ من السعرات الحرارية. إنها تتطلّب إجراء خفض دائم في استهلاك الطاقة يصل حتّى 60%. وفي كل حيوان خضع لهذا الأمر في تجربة من التجارب، بدءا من ذباب الفاكهة إلى الرئيسيّات، كان ذلك الأمر يُطيل العُمريْن الكرونولوجي والمناعيّ، وعدد السنوات الخالية من المرض في مرحلة ختام العمر.
تنجح هذه الإستراتيجيّة لأنها تعتمد على التكيُّف التطوّري للجوع، وهو ما يضع إصلاح الخلايا والنجاة أولوية على النمو والتناسل. بدت الحيوانات التي حُدِّد لها قدر معين من السعرات الحراريّة أكثر ليونة ورشاقة، وكانت عمليّات الأيض لديها أكثر صحّة وعملياتها العقليّة أكثر حِدّة عن الحيوانات الأخرى التي التهمت الطعام وفقا لمشيئتها، كما كان لديها أيضا استجابة مناعيّة أقوى.
لسوء الحظّ، فإن من الصعب جدا الحفاظ على قدر معين من السعرات لاستهلاكها بشكل طوعي، لكنْ هناك طرق لمحاكاة هذا السلوك دون الحاجة إلى الدّخول في حمية غذائية من التجويع الدائم. والطريقة للقيام بذلك تكون عبر تعطيل مسار لتحسس المغذيّات داخل الخلايا يُسمى "إم تور" أو "هدف الثدييات من الراباميسِين". وعندما يكون هناك شحٌّ في السعرات الحرارية، تتوقف هذه المجسات عن العمل، مما يبدأ عملية تسلسلية تنقل نظامك إلى "وضع المجاعة". يمكن لهذا المسار أن يتوقف أيضا عبر عقاقير تُسمّى "مثبطات الإم تور" أو ما نعرفها بشكل أفضل باسم راباميسين.
خفض السعرات الحرارية
يتداوى البعض ذاتيا بالراباميسين وإن كان غير محدد بعد كعقار مضاد للشيخوخة أو محسّن للجهاز المناعي، لكنْ هنالك طرق أخرى لتحقيق عملية تثبيط الإم تور، وإحدى هذه الطرق هي "الصيام المتقطّع"، وهي حالة مؤقتة من خفض السعرات الحرارية التي تكفي لكي تُعطّل الإم تور لفترة قصيرة مع الاستفادة منه في الوقت نفسه. وهناك العديد من الأنظمة الغذائية لهذا الصيام، ومنها نظام 16 ساعة من الصوم عن الأكل مقابل 8 ساعات من الأكل. وحتى إن قمت به مرة واحدة أسبوعيا، فستكون هذه الطريقة فعّالة جدا في إبطاء التشيّخ وتدعيم الجهاز المناعي. كما أن التمارين الرياضيّة مثبّط معروف للإم تور.
حتى وإن لم تكن حمية الصيام المتقطّع ملائمة لك، فإن إنزال الوزن ببساطة يمكن أن يحمل آثارا جيدة على جهازك المناعي. ووفقا لبوني بلومبيرغ من جامعة ميامي في فلوريدا، فالبدانةُ ترهق الجهاز المناعي إلى حدٍّ قد يوصله مرحلة التشيّخ. كما أن الشيخوخة مرتبطة بتراجع أداء الخلايا البائية في النظام المناعي والإنتاج المنخفض من الأجسام المضادة عند الاستجابة للقاحات، وكذلك تفعل البدانة، وتقول بلومبيرغ إنَّ "النسيج الدهني يؤثر بشكل سلبي على الاستجابة بالأجسام المضادة؛ لذا ترتبط البدانة بالاستجابة الضعيفة للقاحات حتى لدى صغار السن".
هل يمتلك البعض منا أجهزة مناعية قوية بشكل فطري؟
حتى بين الأشخاص الذين لديهم أجهزة مناعية تؤدي وظائفها بشكل كامل تكون هناك تفاوتات هائلة في جودة عمل الجهاز المناعي. في عام 2018، وفي وحدة "البيئة الدَّاخلية" في معهد باستور ومقرّه فرنسا، فُحِصت عينات لخلايا مناعية متحرّكة أُخِذت من 1000 رجل وامرأة تقع أعمارهم بين 20 إلى 69 عاما. ووجد العلماء اختلافات فردية كبيرة بين الأشخاص من مختلف الأعمار، وهو أمر يمكن أن نتوقعه بالنظر إلى أنَّ أجهزتنا المناعية تتراجع كلّما تقدَّمنا بالعمر، لكنهم اكتشفوا أيضا أن الأشخاص من الفئات العمرية ذاتها يمكن أن تكون لديهم أجهزة مناعية مختلفة جدا، بخلاف التباينات التي يفرضها ما يُسمّى بالعمر المناعي.
يعود هذا جزئيا إلى التفاوتات في مدى التعرض للفيروسات والبكتيريا على مدار العمر، وهو ما يُمكن أن يُغيّر بشكل جذري من تكوين جهازك المناعي التكيفي، الجناح المسؤول عن الدفاعات التي تُفرز الأجسام المضادة المعيَّنة لمهاجمة التهديدات.
والجينات عامل مفتاحي أيضا، حيث وجد فريق معهد باستور اختلافات كبيرة في تكوين الأجهزة المناعية السليقية بين الناس، خط الدفاع العام الأوّل، ورُصدت تلك الاختلافات في الجينات. ليست أهمية هذه الاختلافات الجينية في الجهاز السليقي معروفة بعد، لكنها قد تتمثّل في أن البعض يمتلكون بشكل طبيعي قدرة أكبر من الآخرين على مواجهة تهديدات معينة، وكغيرها من الأشياء في الحياة، فالقوّة المناعيّة هي "يانصيب" وراثي.
بعيدا عن الجينات، وجد الفريق أن المدخنين يمتلكون جهازا مناعيا أكبر في العمر من أجهزة غير المدخنين من الفئة العمرية نفسها، وما زلنا نجهل حتى الآن إن كان بالإمكان عكس هذا الأمر. لكن إن كنت لا ترغب في أن تُصيب جهازك المناعي شيخوخة مبكرة، فسيكون من الأفضل أن تبتعد عن التدخين.
يُشير بحث آخر حول التشيخ المناعي بقيادة شن أور إلى أن الجهاز المناعيّ يمكن أن يُصاب بالإرهاق المزمن. وقد أجرى الفريق فحصا للجهاز المناعيّ لدى الأطفال في بنغلاديش، الذين تتحمل أجهزتهم المناعيّة بشكل عام أعباء ثقيلة بسبب أمراض العدوى التي تُسبِّبها الطفيليات، ووجد أنَّ أجهزتهم المناعية تتشابه مع أجهزة الراشدين في كاليفورنيا.
إنَّ الأهمية الإكلينيكيّة لهذا الأمر على المدى البعيد لا تزال غير واضحة بعد، لكن يبدو أنّه يُضعف فكرة القول المأثور "ما لا يقتلك يجعلك أقوى". لكن لا بد من القول إن جهازا مناعيا غير مستعدّ قد يُسبب المشكلات؛ فالأشخاص الذين لا يتعرّضون للعدوى والطفيليات في سن الطفولة يكونون أكثر عُرضة لاضطرابات المناعة كأمراض الحساسية في مراحل متقدمة من حياتهم.
-------------------------------------------------------------
هذا المقال مترجم عن Science Direct ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.
Comments
Post a Comment