"هوس الصالات الرياضية".. هل تساعد ممارسة الرياضة على خفض الوزن حقا؟
هذا المقال منقول عن موقع ميدان الجزيرة عبر الرابط هنا
بقلم شادي عبد الحفيظ
أكثر ما يميز صالات الرياضة حاليا هو أنها أصبحت دائما مزدحمة، لا سيما في أول أيام الإجازة الصيفية، وأول أيام الدراسة كذلك، فتلك هي مواعيد وضع الخطط الجديدة دائما، وعادة ما يكون أول شيء تفكر فيه إذا رغبت في خفض وزنك قليلا، أو كثيرا ربما، هو أن تحجز في إحدى الصالات مكانا، وتحرص على القدوم في موعد تكون أجهزة المشي فيه خالية.
نحن نتعامل مع ذلك الادعاء، الذي يقول إنه "لخفض وزنك ابدأ بالرياضة"، كأنه شيء بديهي، كمعلومة أساسية تربّينا عليها منذ طفولتنا، ويُروِّج الجميع لها بداية من الجدة التي لم تُصب بالسمنة أبدا، حينما تقول إن السبب في ذلك هو أنها كانت دائمة النشاط في المنزل، مما وفّر لها بيئة مناسبة للحفاظ على وزنها، ووصولا إلى البرامج التلفزيونية، ومدربي الصالات الرياضية، وصديق لأحد أصدقائك لا تعرفه، لكنه كتب منشورا مهما عن الأمر على فيسبوك. لكن هل هناك فعلا دلائل تدعم هذا الادعاء؟
قد تحتاج إلى أن نسافر إلى شمال وسط تنزانيا، تحديدا حول بحيرة إياسي وسط الوادي المتصدع الكبير، هناك حيث تعيش مجموعة من نحو 1500 شخص تُعرَف باسم قبائل الهادزا، أربعمئة شخص فقط من هؤلاء لا يزالون يعيشون على نمط الحياة التقليدي، الجمع والالتقاط. يشارك جميع أفراد العائلة في جمع الغذاء، الرجال يسافرون عدة كيلومترات يوميا لإيجاد الفرائس، والنساء يلتقطن الفواكه والنباتات المفيدة، والأطفال يشاركون في الفريقين.
لوهلة تتصور أن احتياج هؤلاء إلى الطاقة سيكون أعلى، في المتوسط، من مواطن في مدينة القاهرة المصرية مثلا، فهو يعمل طوال الوقت، وبشكل عنيف في بعض الأحيان، أما مواطن القاهرة على سبيل المثال فقد يكون موظفا في إحدى المصالح الحكومية، يقضي معظم وقته جالسا خلف أحد المكاتب، وكل ما يبذله من جهد هو المسافة التي يمشيها بين المنزل ومحطة الحافلات، وهي نحو أربعمئة متر يوميا، لكن هيرمان بونتزر، أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة نيويورك، اكتشف أن ذلك غير صحيح.
يهتم بونتزر ورفاقه بدراسة القبائل التي لا تزال تتبع نمط حياة تقليديا، وبشكل خاص فهو يدرس استهلاك أجسامنا للطاقة، ومن وجهة نظر تطورية يحاول أن يتفحص أسرار تميز البشر عن بقية المخلوقات جاعلا خطوط سير واستهلاك الطاقة سببا لذلك، لكن في أثناء تجاربه اكتشف(1) أن رجال الهادزا يحتاجون في المتوسط إلى حرق نحو 2600 سعرة حرارية في اليوم، أما نساء الهادزا فيحتجن إلى نحو 1900 سعرة حرارية يوميّا، إنه تقريبا المتوسط نفسه في مدينة مثل القاهرة أو نيويورك أو داكار!
الكالوري(2) أو السعرة الحرارية هي وحدة قياس الطاقة التي يستهلكها جسمنا، كتعريف فيزيائي فإنه يساوي قدر الطاقة اللازم لتسخين كيلوغرام من الماء بمقدار درجة واحدة سيليزية، لكنه ببساطة عُملة الطاقة في الجسم، حينما تأكل تفاحة أو قطعة بيتزا فإنها تدخل للجسم وتُهضم ثم تتحوَّل إلى مواد كيميائية تُساهم في إعطائك نحو 50 سعرة حرارية للتفاحة، و220 سعرة حرارية لقطعة البيتزا.
الآن دعنا نتخيّل أن جسمك أشبه بسيارة تحتاج إلى البنزين كي تستطيع أداء كل نشاطاتك اليومية المعتادة، طعامنا هو هذا البنزين الذي تحرقه أجسادنا للحصول على الطاقة. الأمر يعتمد على معادلة رياضية بسيطة: إذا كنت تحرق من الطاقة ما يكفي استخدام جسمك اليومي فإن وزن جسمك يبقى كما هو دون زيادة، أما إذا كنت تحرق أكثر من المطلوب فإن الطاقة تتخزّن في صورة دهون ويرتفع وزنك، وإذا كنت تحرق أقل من المطلوب فسينخفض وزنك.
لم تكن تجارب بونتزر فقط هي المؤشر على أن استهلاكنا للطاقة لا يبدو أنه يتأثر كثيرا بجهدنا العضلي، على سبيل المثال فحص فريق من جامعة بايلور الأميركية استهلاك 44 طفلا من قبائل "شوار"، التي تسكن في غابات الأمازون بين بوليفيا والبيرو، ليجدوا(3) أن استهلاكهم للطاقة مشابه للأطفال الأميركان مع فارق يسير لا يساوي بالتأكيد فارقا كبيرا في الجهد العضلي اليومي الذي يبذله كلٌّ من الفريقين (يمكن حساب الجهد العضلي للخاضعين لتلك التجارب عبر أجهزة تتبع تقيس معدلات الحركة).
أما آمي لوك من جامعة شيكاغو، فقد وجدت نتائج(4) شبيهة حينما قامت بالمقارنة نفسها بين النساء في ريف نيجيريا والنساء الأميركيات من أصول أفريقية، ورغم وجود فارق بدني كبير فإن احتياجهن جميعا إلى الطاقة كان متشابها. لو أنك تبذل قدرا كبيرا من الجهد، وهو أمر يستهلك جزءا من الطاقة التي تأخذها مع الطعام، كان من المفترض أن يزيد متوسط احتياجك اليومي إلى الطاقة، لكن لِمَ يحدث ذلك؟
لفهم السبب في ذلك دعنا نُقسِّم(5) استهلاكك اليومي للطاقة إلى ثلاثة أقسام، الأول هو الأيض الرئيسي (Resting metabolism)، وهي الطاقة التي يحتاج إليها جسمك للاستمرار بعمل وظائفه الأساسية، أي لإبقائك حيًّا، والثانية هي الطاقة المستهلكة في حرق الطعام إلى مركباته الأساسية من أجل استهلاكها، أما الجزء الاخير من الطاقة فيُستهلك في النشاط اليومي، وهو الجزء المتعلق بالتمرينات الرياضية، لكن هذه المهمة لها حدٌّ أقصى، حيث لا تستهلك سوى نحو 20% فقط من حرق الطاقة الخاص بك.
يعني ذلك أن جسدك، بالأساس، يضع استهلاك الطاقة من أجل النشاط البدني في حدود ضيقة من عموم استهلاكه للطاقة، لكن ذلك وحده لا يُفسِّر سبب عدم وجود فارق في استهلاك الطاقة بين جماعات من البشر ذات نشاط بدني مختلف بشكل جذري. يقترح(6) فريق من العلماء أن الجسم نفسه يمكن أن يعمل على تعويض هذا الفارق عبر حيل ذكية متعلقة بعملياته الأساسية.
على سبيل المثال، من المعروف أن التمارين الرياضية تخفّض من إفراز الجسم لبعض المواد المتعلقة بالمناعة، وكذلك بعض الهرمونات الجنسية، وفي فئران التجارب تُقلِّل من عدد دورات التبويض، وتتسبّب في بطء عمليات إصلاح الأنسجة، يمكن أن تُضاف الطاقة التي اختُزِلت من تلك العمليات في تعويض فارق النشاط البدني. لهذا السبب، تحاول بعض الدراسات الحديثة أن تفحص وجود مشكلات في النمو عند الأطفال الأكثر نشاطا، لأن الطعام لا دور له في هذه النقطة، فطاقة النشاط تُستهلك من طاقة بعض العمليات الأساسية في الجسم.
لهذه الأسباب، فإننا كثيرا ما نقرأ على الإنترنت منشورات تتحدث عن احتياجنا إلى قدر كبير من الجهد البدني، فقط لأجل أن نسمح لأنفسنا بأكل كمٍّ قليل من الطعام. على سبيل المثال، لكي تُعادِل قطعة بيتزا صغيرة يجب أن تستمر في السباحة لمدة 45 دقيقة، السبب في ذلك أن الكثير من التمرين الرياضي مطلوب لإحداث أثر طفيف في الطاقة التي تستهلكها، تُشير الحسابات إلى أن شخصا بوزن 90 كجم يجري ساعة يوميا لمدة شهر لن ينخفض وزنه أكثر من كيلوغرامين اثنين.
لكن الأمر لا يتوقف هنا للأسف، في إحدى التجارب(7) التي أُجريت بجامعة لويزيانا الأميركية، وُضِعت عدة مئات النساء ذوات الوزن الزائد على أنظمة تمارين رياضية لمدة ستة أشهر، تمرّنت مجموعة منهن لمدة 72 دقيقة كل أسبوع، ومجموعة لمدة 136 دقيقة، ومجموعة لمدة 194 دقيقة، أما المجموعة الرابعة فحافظت على روتينها اليومي المعتاد دون تمارين رياضية. بعد نهاية الدراسة قيست أوزان هؤلاء السيدات، وجاءت النتائج لتقول إنه لم يكن هناك فارق كبير في فقدان الوزن بين أولئك الذين مارسوا الرياضة وأولئك الذين لم يمارسوها، وفي بعض الحالات كان العكس هو ما حدث.
هنا فسّر الفريق البحثي تلك النتائج من وجهة نظر أخرى تعتمد على تقنية سلوكية نلجأ لها تُسمى "التعويض"، فنحن نعرف أن الواحد منا يميل إلى أن يكون جائعا بشكل أكبر من المعتاد بعد التمرين، في تلك النقطة كذلك نود أن نكافئ أنفسنا على أداء التمرين نفسه، فنقوم باستهلاك قدر من الطاقة أكبر من الذي أحرقه التمرين أصلا!
النتائج نفسها توصلت إليها دراسة أخرى(8) أُجريت على الأطفال عام 2008، حيث استمر الباحثون لمدة 18 شهرا في فحص الفارق بين استهلاك الطاقة وإنفاقها لدى عدة مجموعات من الأطفال البدناء، ووجدوا أن الأطفال الذين مارسوا التمارين الرياضية استهلكوا بعد التمارين كمًّا من السعرات الحرارية أكبر من التي أحرقوها للتو بفارق 10 إلى 20 ضعفا!
في النهاية، دعنا نُوضِّح أن الدور الذي تلعبه الرياضة في حياتنا أصبح أكثر من مجرد "رفاهية" أو "اختيار"، بل ضرورة أساسية تتوقف عليها صحتنا النفسية والجسدية، وينتقل ذلك ليشمل كل شيء آخر بما في ذلك أشياء مثل العمل أو العلاقات، وكنا بالفعل في أكثر من تقرير سابق ناقشنا تلك النقطة باستفاضة، وشددنا على أهميتها(9).
لكن حينما نتحدّث عن خفض الوزن، فإن الرياضة لا تعلب الدور الذي نتصوّره، في الواقع فإنه حتى تلك الدراسات التي تمكّنت من إيجاد فارق جوهري بين مجموعات من البشر أدّت تمارين رياضية وأخرى لم تؤدِّ واجهت مشكلة أساسية في أن تتحوّل إلى أرض الواقع، حيث إنه من المفترض(10) لكي تحصل على نتائج فعّالة أن تستمر في تمرين مكثف لمدة خمسة أيام في الأسبوع، على مدى 10 أشهر، بانتظام شديد، هنا يمكن أن تخسر 5-7% فقط من وزنك!
من النادر أن يلتزم أحد بهذا النمط من النشاط الرياضي، ولذلك فإن أول خطوة على الطريق الصحيح لخفض الوزن تبدأ بإدراك أن الأمر -بشكل أساسي- يتعلق بالحمية الغذائية، الرياضة يمكن أن تفيد بشكل جانبي، لكن التركيز عليها أثناء محاولاتنا لخفض الوزن سيكون محبطا في مرحلة ما. بكل بساطة، يمكن أن تفقد نصف كيلوغرام من وزنك بأن تجري لمسافة نحو 100 كيلومتر، أو أن تفوّت إحدى الوجبات لمدة أسبوع فقط!
Comments
Post a Comment